حدث ذلك بإحدى الجامعات في الجزائر و بدأت تفاصيلها سنة 1997 م
كانت وداد فتاة في ريعان شبابها ، مهذّبة و تحترم الجميع،
يعجب كلّ من يعرفها بأخلاقها السّامية ، و من بين هؤلاء
مروان الفتى الوسيم الذي يدرس معها في نفس الصفّ .
لطالما حاول التّقرّب منها و لكنّها كانت في كلّ مرّة تصدّه،
بحجّة أنّها لا تهتمّ إلاّ بدراستها ، و انّ التّفكير بإقامة علاقة
عاطفيّة مع أيّ شاب هو آخر اهتماماتها ، و هذا ما جعل
مروان يتمسّك بها أكثر من ذي قبل ، و سرعان ما تحوّل
إعجابه بها إلى حبّ سكن بداخله ، و قد صارحها في عدّة
مناسبات و لكنّ وداد كانت في كلّ مرّة تتحجج بالدّراسة ،
و في كلّ مرّة تردّ عليه بالرّفض القاطع .
في يوم من الأيّام التقى مروان وداد في ساحة المعهد الّذي
يدرسان به ، و نظر كلٌّ منهما إلى الآخر فأحسّت وداد
و كأنّها تلتقيه لأوّل مرّة و انتابها شعور غريب ، وغادرت
المكان في صمت و تأكّدت بأنّ ذلك الشّعور ليس بمحض
الصّدفة و لكن قلبها بدأ يمحّص و اختار فتى أحلامها ، و لم
تستطع البوح لمروان بالأمر و ظلّت علاقتها به على
ما كانت عليه ، و لكنّ تفكيرها شيئًا فشيئًا أصبح مشغولا
كليّة بمروان و لا تمرّ لحظة من حياتها لا تفكّر فيها به ،
و كذلك الأمر بالنّسبة .
اجتازا كلّ مراحل الدّراسة بنجاح ، و اقتربت امتحانات
الفصل الأخير لآخر سنة دراسيّة ، و بدأت وداد تفكّر في
مصير هذا الحبّ الّذي بات سرّا تكتمه في قلبها ، و هي
تتمنى أن يفاتحها مروان بالموضوع كي تبدي له موافقتها ،
ولكنّ مروان من جهته كان يخاف أن يفاتحها فتصدّه ككلّ
مرّه .
و ظلّ حالهما على ما هو عليه و حان موعد الامتحانات
واجتازها الطّلبة ، و اقتربت عطلةنهاية الدّراسه و حانت
لحظة مغادرة المعهد في انتضار النّتائج بعد أسبوعين ،
وتوادع الطّلبه و ودّع مروان وداد وداعاً حزينا ، و لوعة
الفراق في قلبيهما كانت عظيمة .
كانت أيّام العطلة تمرّ عليهما كأنّها سنوات طوال و حنّ كلّ
منهما للآخر ، و كبر الشّوق في قلبيهما . جاء يوم ظهور
النّتائج و توجّه الطّلبة إلى المعهد للاطّلاع عليها و لكن لهذا
اليوم في قلبيّ مروان و وداد طعم خاص كلّ منهما يتوق
لرؤية الآخر ، التقيا أمام بوابة المعهد و هرولت وداد نحو
مروان غير آبهة بأحد لكنّ مروان تجمّد جسمه لما رأته
عيناه غير مصدّق،و تيقّن حينها بأنّ حبيبته تبادله نفس
المشاعر و الأحاسيس ، و سارع إليها و تصافحا و توجّها
معاً نحو مكان قوائم النّتائج ، فوجدا اسميهما ضمن
النّاجحين ؛ و أمسكها من يدها و مشيا معاً و طلب منها أن
يوصلها إلى محطّة القطار فوافقت، و أخذ عنوانها
لمراسلتها وودّعها و افترقا و كلّ منهما تغمره فرحة عارمة.
تبادلا الرّسائل و التقيا مرّات عديدة و الحبّ بينهما يتنامى
اليوم تلو الآخر ، و جاء موعد الدّخول الاجتماعي و شرع
الاثنين في البحث عن عمل و بصعوبة كبيرة حصلت وداد
على منصب، و لكنّ مروان لم يجد عملاً لأنّه لم يؤدّ الخدمة
العسكريّة ،و استُدعي لتأدية واجبه الوطنيّ فحزنت وداد
ولكنّ مروان خفّف عنها ووعدها بأنّه سوف يزورها في
العطل .
بالفعل كان مروان في كلّ مرّة تتاح له فرصة العطل يزور
وداد في مكتبها؛ و في الأيام التي يكونا فيها بعيدين عن
بعض يشتاق كلّ منهما للآخر و يكبر الشّوق في قلبيهما .
أكمل مروان فترة سنة و نصف من الخدمة العسكريّة ،
وبحث عن عمل فلم يجد و طالت أيّام مروان فيالبحث لكن
دون جدوى فأحسّ بالاحباط لأنّ عليه ان يتحصّل على
منصب شغل كي يستطيع التّقدّم و يخطب وداد التي كان
يلتقيها من وقت لآخر فهي القلب الحنون الّذي يفرغ له
مكنوناته ، و الصّدر الّذي يرتمي بين أحضانه فتخفّ وطأة
أحزانه .
في يوم أحسّ مروان باليأس من الحياه فقرّر أن يسافر إلى
خارج الوطن للعمل فأخبر وداد قبلت الفكرة و لكنّ مروان
كان قصده أن ينهي علاقته بها ، و يتركها تكمل حياتها
بعيدة عنه و هو يرى أنّ في هذا صالحها ، و أخبرها بقراره
فنزل الخبر عليها كالصّاعقه فحزنت حزنا شديدا فلم تجد من
بُدٍٍّسوى حسرة كتمتها بين أضلعها و أحسّت أنّها في دوّامة،
كيف لا و حبيب قلبها سوف يتركها إلى الأبد و أخبرها بأنّه
فكّر مليّاً في الأمر فوجد أنّه لا بدّ من قطع علاقة لم ولن
يكتب لها أن تستمرّ ؛ قلب مروان كان يعصره الحزن
والألم لكنّه كان مرغما على قول ذلك و قد عزّ عليه أنيرى
حبيبته تكبر أمام عينيه و هو عاجز على أن يوفّر لها عشّاً
زوجيّاً مستقرّاً ،فأحسن أن ينسحب من حياتها و يتركها
تعيش مع غيره خاصّة و أنّ لديها فرصاً كثيرة لذلك .
رغم أنّ تخمينه كان صائبا إلاّ أنّ وداد لم تهضم الموضوع
فشعرت بإهانة كبيرة في داخلها وجّهها إليها أعزّ إنسان
لديها في الوجود ، إذ في الوقت الّذي كانت تنتظر فيه مروان
أن يطلب منها انتظاره حتى يعود من ديار الغربة ليحقّق لها
و له أملاً لطالما حلما به معاً ؛فاجأها بحقيقة مُرّة ، فابتعدت
عنه و هو يطلب منها عدم الذّهاب فمشت مسافة قصيرة ثمّ
توقّفت و الدّهشة بادية على محيّاها ، و لحق بها مروان
وطلب منها أن يذهبا معاً فرفضت و طلبت منه أن يرحل
ولم تستطع النّظر في عينيه فذهب مروان و بقيت وداد أمام
جذع شجرة يشهد نهاية حبٍٍّعفيف و صادق و الدّموع قد
حبسها الشّجن داخل عينيها فأبت أن تسقط و تريح القلب
الجريح المكلوم الّذي انهكته الأيّام بمآسيها و أحزانها
وآلامها ،و بعد مدّة قصيرة رفعت وداد رأسها و إذا بمروان
متوجهاً نحوها و ما هان عليه أن يترك حبيبته و يرحل
فأدركت وداد حينها أنّ ملك أحلامها لم يقل ما قاله كرهاً لها،
فنظر كلّ منهما للآخر و توجّه نحوها و عانقها بحرارة
وكان يقول في قرارة نفسه ليس الأمر بيدي يا أغلى من
روحي و لكنّ ما جرى كان فوق ما أطيق ، و نظرت وداد
إلى عينيه البريئتين الخاليتان من الغدر و الخداع فرأتهما
أكثر بريقاً من ذي قبل و قرأت فيهما ما كان يختلجه
فأجهشت بالبكاء و تألّم مروان و لم يتحمّل رؤية تلك
الدّموع الّتي كانت تنهمر من عيون حبيبته فضمّها إلى
صدره بكلّ قوّته و هو يرجوها ألاّ تبكي لأنّ ذلك أكثر
ما يؤلمه ، فتوقّفت عيناها عن البكاء و بقي قلبها ينحب ،
وذهب الحبيبان معاً يسيران في الطّريق و لا أحد منهما يجد
ما يقوله للآخر ، و بعد ذلك الصّمت الرّهيب الّذي خيّم على
المكان حانت لحظة الفراق و أحسّ كلٌّ منهما أنّ السّماء
تكاد تنطبق على الأرض وتوادعا الوداع الأخير وداعا مريرا
كانت أصعب لحظة مرّا بها .
في طريقها إلى البيت أحسّت وداد بخلوّ الكون من البشر
فلا أحد يشاركها آلامها و جراحها فمن كانت ترمي اوجاعها
بين أحضانه ،و من كان يمسح دموعها بيديه قد وجّه إليها
ضربة موجعة أدمت قلبها و أسالت دمعها و كأنّه صوّب
نحوها سهماً مسموماً أسكنه أحشائها فأخذ ينخر جسدها
و يميتها الموت البطيء .
مروان كان يشعر بالأسف و النّدم لأنّه جرح أرقّ قلب أحبّه
بصدق ؛ و بعد أيّام استعدّ للسّفر و هو يحمل بين جوانحه
حبّا جارفاً سكن نفسه و شغل كيانه ، حبّ فتاة رقيقة
لم تتسبّب في جرحه يوماً و هو الّذي جعلها تتجرّع كؤوس
الألم حتّى الثّمالى ، فتاة حلّت محلّ الأمّ الّتي فقدها في
عطفها عليه و حنانها ، و في الطّائرة استعاد شريط ذكرياته
و تذكّر كلّ لحظة سعيدة قضاها مع حبيبته فحنّ إلى رؤيتها،
و عند وصوله ديار الغربة قضى ليلته في أحد الفنادق
و خيال وداد لم يفارقه لحظة ، و في اليوم الموالي خرج
للبحث عن عمل فحصل على منصب فغمرته فرحة ما بعدها
فرحة و أوّل ما فكّر به هو العمل ثمّ العودة إلى الوطن
و الزّواج ممّن يهواها قلبه .
كانت وداد تفكّر بمروان في كلّ لحظة و في كلّ آن ، نحل
جسمها و شحب وجهها و فقدت الشّهيّة في كلّ شيء فلم
تعد كالسّابق ، و توالت الأيّام ووداد غارقة في حزنها تتردّد
على عملها يوميّاً ؛و في يوم من الأيّام و بينما هي في
مكتبها دخل عليها أحد الأعوان و هو يحمل في يده ظرفاً
لوداد و سلّمها إياه فكّرت وداد في كلّ شيء إلا أن يكون في
الظرف رسالة من حبيبها الذي رأت على ظهر الظّرف
عنوانها مكتوب بخطّ يده لم تصدّق ما رأت وغمرتها فرحة
عارمة ؛ فتحت الرّساله و قرأتها و دموعها تنهمر مع كلّ
كلمة حبّ و شوق مكتوبة ، رسالة يخبرها فيها حبيب
روحها بأنّه قد حصل على شغل و أنّه جمع مبلغا من المال
يسمح لهما بالزواج و كتب لها بأنّه سوف يعود إليها بتاريخ
يكون بعد أسبوع من اليوم الذي تسلّمت فيه رسالتة ؛
و قرأت الرّساله مرّة و اثنتين و ثلاث حتى حفظت كلّ كلمة
فيها ، و حانت ساعة مغادرة مكان العمل خرجت و الفرحة
تغمرها و الغبطة بادية على مُحيّاها و هي تمشي في الطّريق
و إذا بسيّارة يسوقها نحوها القدر لترتطم بها فترديها على
الأرض طريحة ، وسالت دماؤها تروي التربة العطشى ،
فتجمّع حولها أناس كثيرون لكنّها لم تكن ترى أحداً و كأنّ
الوجود قد خلى من البشر و لا يوجد به غيرها و استعادت
أيّاماً مثقلة بالفرح ، مثقلة بالجراح ؛ ووجّهت عيناها صوب
السّماء و كأنّها ترجوها عدم قبض الرّوح ، تمهلها حتّى
ترى الحبيب المنتظر تسألها الرّأفة ، و على استعجال نقلوها
إلى المشفى و هي في غيبوبة غير آبهة بكلّ ما يحدث
حولها ، و أُدخلت غرفة الإنعاش و بعد لحظات بدأ نبض
قلبها يتناقص و أجمع الأطبّاء على أنّ حالتها ميؤوس منها،
إلاّ أنّ شوقها لرؤية ضياء قلبها منحها القوّة للتّشبّث بالحياة
و أن تؤخّر الموت إلى حين بقيت على حالها أسبوعا من
الزمن و كأنّ القدر أمهلها و حبّ مروان أعطاها قدرة التّحمّل
و تحدّي الموت و لكنّ تحمّلها لم يدم و القدر أصدر حكمه ،
ومقاومتها ما فتئت أن تلاشت و لم تقوى على تأخير الأجل
أكثر ، و دنت لحظة النّهاية فشخصت عيناها ، و بردت كلّ
أعضاء جسمها و جمدت الدّماء في عروقها و حرّكتها
حرارة الموت آخر حركة ، فسكن الجسد و أسلمت الرّوح
إلى بارئها و انتزعت لها أنابيب العلاج و نقل الجسد الطّاهر
إلى غرفة حفظ الجثث . فبكى عليها الأهل و الخلاّن ،
و حبيب قلبها لم يدر بالمصيبة فقد كان يحضّر نفسه للعودة
إلى أرض الوطنو قد أتمّ كلّ الإجراءات و أحضر معه جهاز
عروسه و ركب الطّائره و لكنّه كان يشعر بنفسه مقبوضة
فضنّ أنّه الحنين إلى الوطن و إلى الحبيبه ، و سرعان
ما شعر بغبطة كبيرة تملأ فؤاده عندما تذكّر بأنّه سوف يجد
فتاته تنتظره في المطار ، و حطّت الطّائرة و نزل مروان
وعند دخوله المطار أخذ يبحث عن وداد فلم يجدها و بقي
ينتظرها في الخارج لكنّ انتظاره قد طال و فقد الأمل ثمّ
استقلّ سيّارة أجرة و اتّجه الى بيته ،وضع أغراضه و لكنّه
كان يحسّ بقلق دفين في أعماقه و قد فكّر في كلّ الإحتمالات
إلاّ أن يكون مكروهاً قد حلّ بمحبوبته ثمّ توجّه إلى المنطقة
الّتي تقطن فيها و مرّ بجانب بيتها و كان المكان يعجّ
بالنّاس و سمع بكاءا و نحيبا و عويلا ينبعث من الدّاخل ،
فاختلجه شعور رهيب و ظنّ أنّ أحداً من أهل وداد قد توفّي
و لم يتخيّل أنّها هي .
لم يجد أحدا يسأله عمّا جرى ، فذهب إلى مقرّ عملها فوجد
السّكون و الحزن يخيّمان على المكان فلمحه زميلها في
العمل توجّه نحوه ووضع يده على كتفه و هو يعزّيه في قرّة
عينه ، يعزّيه في من كانت قنديلاً ينير دربه ، يعزّيه في من
كانت الأمن و الأمان و الحبّ و الحنان ، يعزّيه في من كانت
الأمّ و الأخت و الحبيبة و الصّديقة ، يعزّيه في من كانت
سبب حزنه و فرحه ،يعزيه في من كانت حياته ؛ أخبره
بأنّها لم تُدفن بعد وأنّها لم تزل في المشفى فتوجّه مروان
ليلقي النّظرة الأخيرة على جثمانها و هو غير مصدّق
ما حدث و كان يتمنّى أنّ الأمر مجرّد خطأ و أنّ المتوفّاة
ليست حبيبة قلبه وداد ، وصل إلى المشفى و دخل غرفة
حفظ الجثث و سُحب له الدّرج الّذي فيه جسد عروسه
و أزاح الكفن من على وجهها و كانت وداد مسجّاة به
فصُعق مروان و أحسّ أنّ الوجود قد زُلزل و خارت قواه و
لم تعد رجلاه تقويان على حمله لهول ما حدث لروح قلبه.
توفيت وداد و في قلبها لوعة الفراق عظيمه و قلبها يعصره
الحزن .
و في اليوم الموالي ، اليوم المشؤوم الذي ستوارى فيه وداد
الثرى حملوها إلى مثواها الأخير و مروان لم يزل غير
مصدّق لما حدث و حملوها على الأكتاف و حملها معهم
ليضعو جسد الحبيبة داخل اللّحد ، فاضت عيناه و بكاها
بكاءاً مريرا ، إنّها حبيبة روحه التي لن يراها بعد أبدا .
مرّت سنين العمر على مروان و هو يبكي حبيبته في كلّ
وقت و حين ، رفض الزّواج من غيرها فلم يجد أنّ هناك من
تحلّ محلّها و قضى أيّامه في حزن دائم ، و في كلّ يوم يمرّ
يشتاق إليها أكثر و أكثر و يشتدّ حنينه لها .
و هكذا تنتهي قصّة حبّ عذريّ و تموت و هي في مهدها .
تحيّاتي للجميع و كلّ التّقدير و الاحترام